الخميس، 9 فبراير 2023

الثقافة والمكان

 

الثقافة والمكان

يُعنى موضوع الثقافة بعلم الإنسان (الأنثروبولوجيا)، أما المكان الذي يمارس فيه الإنسان ثقافاته المختلفة، فيُعنى به علم الجغرافيا، وبتركيب كل من الثقافة والمكان يتمخض الفرع الموسوم بالجغرافيا الثقافية.

لا يمكن في أي من الأحوال، فصل الجغرافيا (المكان) عن الأنثروبولوجيا (الثقافة)، إذ أنهما يرتبطان بعلاقات وشيجة، فالثقافات هي من رسمت ملامح المكان وأرست البصمة المرئية التي طبعها السكان في المكان من عمران وحدود ولباس وطقوس وعادات وتقاليد وأطعمة ومسارح وطرق وأحياء ارتبطت بثقافة السكان.

كما أنَّ المكان من زاوية أخرى، هو من شيد ثقافات الإنسان، وهو من قام بصنع الهوية الثقافية للسكان من لغة وعادات وتقاليد وطباع، وفي الأديان غير السماوية، ساهم المكان في تبني أديان أرضية، مثل إله الكاكاو (المتواجد في الطبيعة والأقاليم المناخية الخاصة) الذي عبده السكان في حضارة المايا والأزتك، ألوان الطبيعة ولون اللباس وطراز السكن، المرتفعات كالجبال وأنماط العمارة المرتفعة...إلخ

يستعين الجغرافيون الثقافيون بسجلات وجهود الأنثروبولوجيون وبكل ما يتعلق بثقافة السكان تمهيدًا لعقد المقارنات المكانية التي تظهر التشابهات والاختلافات الثقافية حسب المكان. أما الثقافيون (الأنثروبولوجيون) فتتطلب معرفتهم الوصفية للشعوب والثقافات معرفة خصائص المكان، إذ أن الشعوب ترتبط بالمكان وتكّون شخصياتهم واعتقاداتهم ومعارفهم وطقوسهم.

ترتبط ذكريات السكان بالأحداث التي جرت في دولهم وفي المناطق والأحياء التي يعيشون فيها، فتنشأ علاقة حميمة بين المكان والسكان، فهنا قتل الرمز، وهنا هزم المستعمرون، وهنا تقام الأعياد والاحتفالات الدينية المنبثقة من حكايات الآباء وأساطير الأجداد.

يتميز الجغرافيون الثقافيون بقدرتهم على رسم الخرائط الجغرافية التي تظهر الحدود الثقافية بين الدول، وكيفية انتقال وانتشار هذه الثقافات عبر الحدود المحلية لتغزو العالم، فتتبدل الثقافات وتتحول جزئيا أو كليًا. ومن أبرز الخرائط الثقافية التي يرسمها الجغرافيون الثقافيون هي خرائط اللغات واللهجات والأديان والمذاهب والطعام واللباس والحضارات القديمة ...إلخ.

الهجرة والعولمة والاستعمار والحاضرة تعتبر أحد أهم الأعمدة التي يرتكز عليها الجغرافيون الثقافيون في دراساتهم حول الارتباط بين الثقافة والمكان، فبالهجرة لا ينقل السكان أمتعتهم فقط، وإنما ينقلون معهم التجارب والخبرات والذكريات، فيرسخونها في الدول المستضيفة، مما يؤدي إلى تغيير معالم المكان وتفضيلات السكان المحلية.

تتأثر المدن بالمهاجرين، إذ تنشأ الأحياء التي تصبغ المكان بثقافة المهاجرين، من خلال ظهور التكتلات السكانية الأجنبية، فتنتشر بالشوارع والطرق اللغات الأجنبية على تلك الدول والأطعمة المحلية واللباس، بحيث يشعر بعض السكان بأنهم متغربين في بلدانهم عند دخول هذه الأحياء، مثل الحي الصيني في الولايات المتحدة الأمريكية.

العولمة حولت العالم إلى قرية صغيرة مترابطة ومتشابكة، وبدورها ألغت الحدود الجغرافية وجعلت العالم مكانًا واحدًا، فباتت الشعوب أكثر انفتاحًا واطلاعا على ثقافات الغير، بل أصبحت الثقافات الأجنبية أسرع انتشارًا في جسد الثقافات التي كانت تسود المناطق والدول المنغلقة على نفسها، والتي كانت أكثر شراسة في الدفاع عن ثقافتها المحلية وتمسكها بعاداتها وقيمها المتوارثة. تأثير العولمة بسبب القفزات النوعية والكمية في التكنولوجيا ووسائل النقل والاتصال حولت الثقافات في فترات زمنية قصيرة، وهو الذي أدى إلى انضغاط الزمان والمكان، ويحمل تأثير العولمة جانبيه السلبي والإيجابي.

العولمة سرعت تدفق الثقافات في العالم وتمكنت من الولوج في الأماكن النائية التي كانت في يوم من الأيام أماكن مغلقة، ورغم ذلك تختلف نسب الصد تقبل الثقافات الدخلية من قبل الشعوب والسكان المحليين الذين اعتادوا على ممارسة ثقافاتهم في إطارهم الجغرافي المحدود ومدنهم وأريافهم وقراهم الصغيرة. وفي الجهة المقابلة تضعف نسبة الصد الثقافي عند الكثيرين بحيث تغير الثقافة الدخلية أو الغربية أو كما تسمى (أمركة الأفكار) هوية الأفراد بشكل كلي، خاصة مع ربط الثقافة بالسلوك الاقتصادي والماركات والموضة...إلخ

        رصد الجغرافيون هذا التحول الثقافي في المكان، وأطلقوا عليه العديد من المسميات التي تدل على ارتباط الثقافة بالمكان والمكان بالثقافة المرئية للسكان والمهاجرين والإنسان بشكل عام، فظهرت العديد من المصطلحات مثل : المنطقة الثقافية ، الإقليم الثقافية ، المناظر الطبيعية الثقافية، المحلية العالمية ، النطاقات الثقافية ، المجال الثقافي... والعديد من المسميات التي أثرت فيها الثقافة على شكل وهيئة المكان، وأثر المكان بحد ذاته على خلق هويات ثقافية مميزة.

لا يمكن سرد كل تفاصيل وحيثيات المكان وتأثيره على ثقافة السكان، لأن الحديث عن المكان هو الحديث عن الزمان والحديث عن التجارب الحسية وعن "الكل" كل شيء وفي كل مكان دون توقف وبتدفق هائل لا يمكن وقفه.

 

حسين قمبر