الاثنين، 22 يونيو 2020

البقاء للأقوى Survival of the fittest


البقاء للأقوى
ملخص الخرافة الأولى
(كتاب أشهر 10 خرافات حول التطور)
كاميرون سميث وتشارلز سوليفان
ترجمة : سامر حميد و بهاء محمد
2018

تلخيص : حسين قمبر







البقاء للأقوى
Survival of the fittest
البقاء للأقوى أو الأصلح عندما تُتداول هذه الألفاظ يتبادر فورًا في ذِهننا المشاهد التي نراها في البرامج التلفزيونية حول عالم البراري أو البحار ولقطات المفترسات وهي تنقّض على فرائسها الأضعف. مثل (الأسود والغزلان) ، (هجوم الذئاب) ، (تصادم قرون الأغنام). "فالأقوى هو فقط من سيبقى على قيد الحياة"، هو من سيستمر، سواءً بين الأنواع المختلفة أو من بين مجموعته ونوعه.
عزّز الإعلام ترسّخ هذا المفهوم الدرامي سواء كان في العناوين الرئيسية لهذه البرامج أو من خلال العبارات التي يصف فيها المذيع مشهد الافتراس؛ مشهد الدماء والعنف والتنافس مثل : "هل للضباء الوحشية أن تكون أكثر صرامة من الأسود؟ هل تتمكن الأنواع البقاء على قيد الحياة؟ هل سيختل توازن الطبيعة؟".... أو العبارة الحرفية التي تناولتها تلك القنوات لـ (ألفريد تنسيون) " عندما وصف الطبيعة بأنها "حمراء الناب والمخلب".
وراء هذا المشهد العام، ومن زاوية أخرى يختبئ عالم ذو أبعاد مختلفة، عالم يضم علاقات نباتية وحيوانية تكاملية لا يُهيمن عليها العنف والمجازر الدامية ، فالحيوانات لها حدودها ومناطقها الخاصة والتي لا تتعدى فيها حدود ومناطق الحيوانات الأخرى.
داروين وعبارة البقاء للأصلح ؟
"إنَّ حفظ التباينات الفردية المفيدة، ثم إبادة الضار منها هو ما سميّته (الانتقاء الطبيعي أو البقاء للأصلح) " (داروين، تشارلز، 1872، أصل الأنواع ، ص 63)
وفقًا للعبارة التي ساقها عالم الأحياء داروين في كتابه أصل الأنواع، فإنَّ البقاء للأصلح (الأقوى) هو ذاته (الانتقاء الطبيعي). ففي المجتمع الذي تعيش فيه الأحياء يمتلك كلاً منهم خصائص وصفات ملائمة تؤهّله بنسبة أكبر من أقرانه كي يتلافى الفناء والموت وخطر الانقراض.
هل هي العضلات القوية والضخمة؟ هل هي الأسنان الحادة؟ هل هو الشعور المروق للدماء؟ لم يُحدّد داروين ذلك كشكل من أشكال القوة التي ترتبط بمفهوم البقاء للأقوى. وهنا نعود مرّة أخرى لنتسائل : الأقوى بماذا تحديدًا ؟ الأصلح في أي بيئة ؟
أمثلة
الأسماك ذات الزعانف الطويلة التي تتوافر بكثرة في بحيرات نيوزيلندا تشتهر بخبرتها في التقاط اليعسوبات (الرعاشات) والقواقع والأسماك الصغيرة التي تعيش في نفس بيئتها. والتي يصل حجمها بعد الانتفاخ بسبب النعيم الذي تعيش به إلى 36 كليوغرام (80 باوند). هذه الأسماك بالرغم أنها تعيش في بيئة تضم عددًا قليلًا من المفترسات وأنها أسياد هذه البيئة، إلا أن الأخطار التي تواجهها للبقاء كبيرة جدًا، إذ أنَّ مكان فقسهنَّ يقع في المحيط الهادي، ولكن ماذا يعني هذا؟
هذا الأمر سيتطلب منهنَّ الزحف بشكل مراوغ في الأراضي الجافة كي ينجينَّ، إذ أن معظمهن يبقى عالقًا في المسطحات الطينية منتظرًا هطول الأمطار لتتحول هذه الجثث الهامدة إلى ملوكا في بيئاتها المائية.
البشر أيضًا وهم النوع الذي يعتمد كليًا على والديه عند الولادة من بين الأنواع الأخرى (شرب الحليب من صدور أمهاتهم) هم عاجزين بالفعل عن حماية أنفسهم. فما يميّز البشر هو امتلاكهم للدماغ وليس القوة العضلية.

مفهوم اللياقة !
Fitness
بتنا أمام مفهومين مترابطين :
مفهوم البقاء ويساوي البقاء على قيد الحياة بالنسبة للأفراد. وللأنواع ويعني لها إنتاج "عددٍ وافٍ من الأفراد الناجين لفترة كافية تمكنهم من إنتاج الذرية القادمة".
مفهوم الأصلح والذي يُرادفه مفهوم اللياقة أو الأكثر صلاحية.
اللياقة كمصطلح منبثق من علم الوراثة السكاني أو ما يطلق عليه (وراثة المجتمعات الأحيائية) "هي الاحتمال الإحصائي لتملك الذرية، الرهان الكوني على إمكانياتك الوراثية كفرد" (راست ، سيوال ، التطور ، 1968 ، التطور ووراثة المجتمعات السكانية ، دوكنز ريتشارد، 1976 الجين الأناني.)
وفقا لمنظور اللياقة فإن مقياس اللياقة لا يرتبط بحجم وقوة العضلات أو الأسنان وحجمها، بل يرتبط بمدى قدرة الأفراد على الانجاب على اختلاف الأنواع بشرًا كانوا أم طيورًا أو حيوانات .... ويصعب جدًا حصر هذه المحددات التي تُعطي للأفراد الصفات أو الخصائص التي تُمكّنه من الإنجاب والتكاثر والاستمرار بسبب الضغوط الانتقائية التي تجعل صلاحيتك (لياقتك) للانجاب متغيرة. وهذا سوف يتطلب من علماء الوراثة السكانية استخدام حواسيب فائقة القدرة تعمل على مدى أسبوعٍ كاملٍ وبكل قوتها لحساب احتمالية حصولك على الذرية اعتمادًا على العوامل المتغيرة.
نموذج إنسان النيادرتال

الأمر يستحق التّخيل : "تخيّل كمبيوترًا كونيَّا يتتبع درجات لياقتك ، رقم احتمالي واحد، من 0 – 100 نسبة مئوية ترفرف وتومض من لحظة إلى أخرى على شاشة حمراء صغيرة بوصفها ضغوطًا انتقائية تزيد أو تقلل من فُرص تمرير جيناتك إلى الجيل القادم من ذريتك"
بداية يجب الإشارة إلى أن أي حاسوب مهما كان فائق القدرة فإنَّ تخمين مدى تأثير العوامل الانتقائية التي تغير درجة لياقة الإنسان لحظيًا صعبٌ جدًا. النيادرتال لو أردنا أن نحسب ونقيس فرصة استمرار بقائه في الكمبيوتر الكوني الضخم والسريع... علينا أن نتوقف عند محطة تاريخية حول هذا الإنسان البدائي الذي عاش قبل مئات الآلاف من السنين وانقرض قرابة 30 سنة مضت.
تخيّل أنك أنت هذا النوع البدائي، تعيش في كهفٍ يطل على وادي سفح جبل سيتم اكتشافه في المستقبل بفرنسا. تداهمك عدة مخاطر وضغوطات بيئية انتقائية قد تؤثر على مدى لياقتك (صلاحيتك) للإستمرار.
هل هي قوتك الجبارة ؟ هل هي المهام التي يجب عليك فعلها مثل جمع والتقاط الطعام وإيجاد الماء وتخزين هذه الموارد في فترة لم تكن تمتلك فيها الخطة أو استراتيجية التخزين. سوف تنزل من الكهف للبحث عما يسد جوعك وعطشك فهل ستسقط أو ستأكلك الحيوانات المفترسة، لا تنسى بأنك تعرف كإنسان بدائي موعد ازدهار بعض النباتات لذلك عليك أن تمر بالنهر أسفل الوادي أثناء مرور قطيع حيوانات الرنة عبر النهر. عليك اصطيادها أو تجنب خطرها. ولكن ماذا لو هاجمت الذئاب تلك القطان وغيّرت اتجاهها، هذا سيعني أنك حُرمتَ من فرصة الحصول على الغذاء.
وجودك في الكهف بحد ذاته عرضة للمفترسات مثل الأسود التي تزيد حجمًا عن الأسود الحالية (500 باوند) أي ما يعادل 226 كيلوغرام. لا بل أنت محاط بالخطر من نفس مجموعتك (النيادرتال) والتي تعتبرك خطرًا عليها إذا كنت تشكل مصدرًا لسلب مواردها والتسلل في مناطقها! الأمطار التي ستستمر أسبوعًا من الممكن أن تطفئ مشاعل النار ، كيف ستحصل على الحرارة في الجو البارد! كيف ستخيف الحيوانات المفترسة! كيف ستطهو الطعام...
ماذا لو أصبت بمرض تجهل سببه، ماذا لو لم تجد الشريكة المناسبة للزواج! أنت في موعد مع نوعٍ جديدٍ اسمه (الإنسان العاقل) الهموسابينس ، والذي يمتلك أدمغة ذكية أكثر منك!
هذه الضغوط الانتقائية ليست ثابتة بل متغيرة على الدوام وبالغة التعقيد إذ أنها ترتبط بالبيئة المجهولة التي يعيش فيها هذا النوع، إنها متغيرات مطاطية لحظية لو مثلّناها (لياقة النيادرتال) على شاشة الكمبيوتر الحمراء ستظهر بشكل فوضوي يصعب من خلاله تحديد درجة اللياقة ومستوى قدرتك كنيادرتال على الإنجاب والبقاء والاستمرار. وهذا ما يجعل مفهوم اللياقة ليس معياريًا أو ثابتًا بل هو مفهوم نسبي يرتبط بمفهوم جديد يطلق عليه البيئات الانتقائية.
البيئات الانتقائية
مهما كانت الأنواع الأحيائية شبيهة وقريبة من بعضها داخل بيئاتها الأحيائية من الصعب جدًا أن تكون نسبة التطابق بينهم 100% حتى التوأمان، فدائمًا يوجد اختلاف وراثي طفيف. هذه الصفات هي من ترفع نسبة جعلك الأصلح والأنسب داخل بيتئك التي تعيش فيها والأكثر احتمالًا للتكاثر والاستمرار.
خذ الذبابة على سبيل المثال ، فهناك ذبابة مع أجنحة، وذبابة من دون أجنحة، فأيهما أكثر فرصة للبقاء والاستمرار داخل بيئتهما؟
الفهود كمثال آخر، لقد عانت الفهود منذ 10 آلاف سنة تقريبًا كارثة جعل نسبة الناجين منها تتكاثر مع تخلّق تشوهات جديدة في الحيوانات المنوية ، مما أدى إلى ارتفاع معدل وفيات صغار الفهود أو اتساع قابليتها للإصابة بالأمراض المختلفة.
بدأت الفهود بعد هذه المرحلة تلد على صنفين، إما مع ذيول ملتوية أو ذيول مستقيمة، وهذا بالطبع يشكل خطرًا عليها وعلى طريقتها في الاصطياد، إذ أن الفهود ذات الذيول السليمة تحقق توازنًا مع سرعتها العالية التي تصل إلى 70 ميل في الساعة أثناء اصطياد فرائسها، وهذا يُسهل عليها الانقضاض واصطياد فرائسها. على عكس الفهود التي ولدت مع ذيول ملتوية (غير سليمة) فهي الآن باتت غير قادرة على موازنة نفسها أو أن تقارن نسبة نجاحها باصطياد الفرائس مقارنة مع الفهود الأخرى السليمة.
هذا التباين على سبيل المثال هو الاختلاف في اللياقة أو الصلاحية بين "أفراد الفهود وبين بيئاتهم الانتقائية وهو أمر ليس له أي علاقة بمعركة فرد ضد فرد آخر، أو مع القدرة الوحشية لفتك بعضها البعض كما يظهر ذلك المُنتج الدرامي على القنوات التلفزيونية كتنافس مريع"

تخيّل أنك طائر نقّار الخشب، تمتلك منقارًا قويًا وجمجمة صُلبة تحفظ دماغك من الكسر أثناء النقر السريع والمستمر على الأشجار أو تمنعك من الصداع النصفي! وبما أنك جائع فستقوم بما هو معتاد، تنصت للأصوات من حولك كي تقتفي أثر اليرقات التي تختبئ منك داخل لحاء الشجرة، لكنك لم تنجح لم تجد أي شيء في الداخل، أنت الآن جائع ويائس وهذا الأمر يحدث معك مرتين في اليوم.
إنك لا تعي أو لا تعرف أنك تعاني من خلل بالسمع، وأن أقرانك من طيور نقار الخشب تمتلك سمعًا أقوى منك يجعلك الأسوء في فرصة البقاء من بينهم إن صحتك أخذت تتدهو، بل إن فرصتك للتكاثر بالعثور على شريكة سوف تتضائل مقارنة بالطيور الأخرى.


أنت كإنسان هل تتخيّل أنك تعيش في الظروف التالية :
ماذا لو لم تطبخ الدجاج جيدًا؟ ماذا لو كان الماء الذي تشربه مُلوثًا؟ ، وهل يوجد ماء ملوث بين مدينتين؟ وكم معدل التلوث؟ ماذا لو تغيرّت مسافة الشمس والتي يصل إلينا ضوئها على قدر 93 مليون ميل؟  هل ستكون نسبة الأشعة أعلى مما يؤدي إلى طبخ حمضك النووي ؟ ماذا سيحدث لو تغيرت خصائص الشمس؟
ماذا عن الإشريكية القولونية  E. coli التي تتكاثر بداخل أحشائك دون ضرر، ماذا لو قمت بأكل سلالة كاملة منها فهل من الممكن أن تتكاثر وتصل إلى دماغك وتسبب لك إلتهابا في السحايا الدماغية والذي قد يسارع في قتلك؟ كما يحدث عند الرضع. "إن الضغوط الانتقائية لا تهتم إن كنت طفلًا أو كنت البابا المقدس"
ماذا لو ارتديت الملابس الدافئة التي تحميك من البرد القارص أي من الضغوطات الانتقائية، وقمت بلس الكمامات الواقية لتجنب الجراثيم وتعامل كما تعامل الملياردير (هوارد هيوز) في مطلع خمسينياته؟ هل بالإمكان أن نعزل أنفسها عن تلك الضغوط الانتقائية بهذه الاجراءات؟ هل نستطيع أن نختبئ؟
بما أننا نعيش في كون مترابط وبيئة متداخلة فيستحيل أن نعزل أنفسنا عن تلك الضغوط الانتقائية التي تعيش معنا لأنها معقدة جدًا. وهذا يعني أنه لا توجد حياة معزولة عن بعضها الآخر"فكل فرد منا غارقً بشبكة معقدة  من الضغوط الانتقائية التي تتطلب حلولًا بيئية لفضها، ولا يضمن تكيفًا واحدًا فقط بل بأن تكون أكثر لياقة في كل زمان ومكان. وهذا هو السبب الذي جعل علماء الوراثة يعتبرون أن التنوع الجيني في الحوض الجيني هو المقياس لصحة المجتمع الأحيائي، فإذا كان الجميع متطابقًا، فإن تغيرا بيئيًا واحدًا.. أو مرضا واحدًا يمكن أن يتسبب بتدمير المجتمع بأسره"