الروائح، ضلع جديد في مثلث الجغرافيا الثقافية
يقول الله في مُحكم كتابه ﴿
إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ﴾ [يوسف: 94] ولعّل كلمة "أجدُ" أعم من تعبير
"أشّم" وذات دلالة عميق ترتبط بالوجدان والحواس. بالرجوع إلى أصل كلمة
"أجد" فهي تأتي من الفعل الثلاثي المجرد "وَجَدَ" والذي يتضمن
العديد من المعاني في معاجم اللغة العربية مثل المعجم الوسيط (1) :
·
الأول: الادراك والعثور، ولأجلها قيل "وَجَدَ
المطلوب"
·
الثاني: الشعور ومنها جاء تعبير "وَجْد" بمعنى
الحزن العميق واضطراب الفؤاد من شدة الشوق. ومنها جاء اشتقاق "الوجدان"
بمعنى الإدراك الحسي والشعور الداخلي.
تجمع الآية القرآنية بين ثلاثة أبعاد جوهرية، وهي البُعد
الشعوري والحسي للروائح وما بين البُعد المكاني (مصر وفلسطين)، والبُعد الزمني
المرتبط بالذاكرة، إذ أنًَ النبي يعقوب قد فقد ابنه لأكثر من سبعين سنة (البُعد
الزمني)، وإيجاده ريح يوسف مرتبط هو الآخر بالبُعد الشعوري والعاطفي، أما المسافة
بين مكان النبيين يوسف ويعقوب (طبقًا لتفسير الطبري) فهي ثمانية ليال من مصر إلى فلسطين،
وهي التي تتضمن البُعد المكاني. (2)
تدبّر المعاني التي تستبطنها الآية القرآنية تقودنا نحو جانبٍ
غاية في الأهمية في الجغرافية الثقافية قد أسسّ له القرآن الكريم لأكثر من ألف
عام، وهو ضلع جديد (الروائح) نسبيًا في مثلث الجغرافيا الثقافية. (الشكل)
مصطلح المشهد الثقافي (Cultural
Landscape) يشير هو الآخر إلى المشهد الطبيعي الذي تم تشكيله
وتعديله بواسطة الأنشطة البشرية. لا يقتصر على الميزات المادية، بل يضم أيضاً
المعاني والرموز والذكريات التي أودعها السكان فيه عبر التاريخ. في صفحات الجغرافيا التاريخية (Historical
Geography) تحضر
مصطلحات مثل المشهد الذاكري
(Memoryscape) ومناظر الصدمات (Traumascapes) (5) والذي يعني المشهد
الطبيعي أو العمراني الذي يتم إثراؤه وتشكيله بالذاكرة الجماعية لأحداث تاريخية.
هو ليس مجرد مكان، بل مساحة يتم فيها تذكر وإعادة تمثيل الماضي. ومصطلح الذاكرة
المكانية (placemories) وهي
الذاكرة التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بموقع جغرافي محدد. يمكن أن تكون هذه الذاكرة
شخصية (مثل تذكر حدث في منزل قديم) أو جماعية (مثل تذكر ثورة في ساحة مدينة). (6)
علم الإنسان والذي يُعرف بالأنثروبولوجيا (Anthropology) استعرض أعلامه العديد من المصطلحات
المرتبطة بالمشهد الثقافي والذاكرة، مثل مصطلح الذاكرة الجماعية (Collective
Memory) والذي صاغه عالم الاجتماع موريس هالبواكس (Maurice Halbwachs)
في النصف الأول من القرن العشرين (1950م)، ويشير إلى الإطار المشترك للذكريات التي
تشترك فيها مجموعة اجتماعية وتُشكل هويتها.(7) غالباً ما يتم تجسيد هذه الذاكرة في أماكن
مادية. ومصطلح المساحة
المُعاشة (Lived Space) الذي ابتكره عالم الاجتماع الفرنسي هنري
لوفيفر (Henri
Lefebvre) في عام 1974م والذي يُركز على التجربة الشخصية والذاتية
والعاطفية للمساحة، على عكس المساحة المادية الهندسية. هو كيف يرى الناس ويتفاعلون
ويشعرون بمكانهم، وليس فقط كيف يتم قياسه. (8)
رائحة الشم (Olfactory) مفهوم يرتبط بحاسة الشم (sense of smell) ويمثل عملية تفسير الروائح الذي يكتشفها
الجهّاز الشمي (olfactory epithelium) ويفسّرها من خلال الخلايا المستقبلة في الأنف، والتي ترسل بدورها
إشارات إلى البصلة الشمية والقشرة الدماغية لتحديد الروائح. إذ تُعد هذه الحاسة
حيوية لاكتشاف الخطر وتحديد الطعام وارتباطها الوثيق بالتذوق والذاكرة. كما توجد هذه
الحاسة علاقة بين العاطفة والذاكرة (Emotional & Memory Link) حيث يرتبط الجهاز الشمّي ارتباطًا مباشرًا
بمنطقة تحت المهاد واللوزة الدماغية (thalamus and amygdala) واللذين يشاركان في
تكوين العواطف والذاكرة، مما يُفسر الروابط القوية بين الروائح والذكريات
والمشاعر. (9، 10)
جُغرافيًا أدخل عالم الجغرافيا الكندية د. ج. بورتيوس
عام ١٩٨٥م (D.G. Porteous)
مُصطلح المشهد الشمّي (smellscape)
أو مناظر الشم (olfactory landscape)
ليشير إلى البيئة العطرية الشاملة لمكان معين، وتشمل جميع الروائح التي يستشعرها
الإنسان. ويشمل المشهد الشّمي الروائح الطبيعية والبشرية، والتي تُفسّر
بناءً على التجارب الفردية والذكريات والسياق الثقافي. (11)
الروائح الطبيعية هي الروائح التي تنتشر في كل مكان
وتنبعث عبر البيئة من الحيوانات والفرائس والجثث المتحللة والنباتات والمياه
السطحية والدخان، ويدخل تحت هذا النوع من الروائح مفهوم البيئة الشمّية أو مناظر
الشم (olfactory landscape) (12). أما الروائح البشرية فهي الروائح التي صنعها أو
ساهم في صنعها الإنسان لتعزيز علاقة البيئة بالذاكرة والعاطفة لدى السكان مثل
المتاحف التاريخية التي تزود برائحة خشب الصندل والعود وأعشاب الليمون وزهور
البرتقال. (13)
تشير الدكتورة النيوزلندية جوانا
بوزينسكا (Jo Burzynska) إلى بعض الأمثلة التي تربط التفاعلات المختلفة بين الحواس. فعند افتتاح
معرض "علم الروائح" (Osmologies) قامت بتعطير الصور مكونات مختلفة لمحاكاة
ذكريات الروائح لدى مجموعة من سكان أوتاوتاهي. عُلقت سلسلة من المنحوتات من السقف
والجدران لتنشيط عيون وأنوف الجمهور؛ وتغمر كل منحوتة تجربة شمية، تجربة يجب على
الجمهور الانحناء إليها وشمها، وفي بعض الأحيان التفاعل معها باللمس.
تقول "عند
دخولي المعرض، ينبهر المرء بمزيج هذه الروائح، سحابة حلوة، تركيبية بعض الشيء،
تجمع بين رائحة معطر جو "جليد" وعطر "سيميناليس" من
"أورتو باريزي". للوهلة الأولى، تغمرني رائحة الباقة التي تملأ المكان.
أشعر وكأنني أقف في متجر "مكة" (14)
الخصائص الرئيسية للمشهد الشمّي
تجربة حسية: المشهد
الشمّي ليس مجرد مجموعة من المكونات الكيميائية، بل هي التجربة الإنسانية المُدركة
لتلك الروائح في سياق مُحدد. على عكس البصر أو الصوت، اللذين يُتيحان المسافة، فإن
الشم حاسة حميمة وغامرة نستنشقها.
معقدة
ومتنوعة: المشهد الشمّي ظاهرة متعددة الطبقات، تتضمن مجموعة
متنوعة من المصادر التي تتغير بمرور الوقت. يتكون من روائح بارزة (مثل رائحة
المخابز أو المجاري) وروائح خلفية خفية (مثل رائحة التراب الرطب أو عوادم
السيارات).
مرتبط
بالعاطفة والذاكرة: يرتبط نظام الشم ارتباطًا مباشرًا بأجزاء
الدماغ المسؤولة عن العاطفة والذاكرة. ولذلك، يمكن للروائح أن تستحضر ذكريات حية
وتؤثر على المزاج والرفاهية والسلوك.
التأثر
بالثقافة: تُشكل الخلفية الثقافية كيفية تفسير الناس للروائح
وتقديرهم لها. ففي حين قللت بعض الثقافات تاريخيًا من شأن حاسة الشم في التصميم
الحضري، فإن ثقافات أخرى، لا سيما في المجتمعات الشرقية والعربية، رسخت الروائح
بعمق في الحياة الاجتماعية والتقاليد.
ديناميكية
ومتطورة: المشهد الشميّ ليس ثابتًا، بل يتغير بتغير الفصول،
والوقت من اليوم، والنشاط البشري، وآثار التنمية الحضرية. على سبيل المثال، قد
تتراجع روائح سوق حضري تقليدي مع التحديث.
المشهدّ الشمّي
والثقافات
يرتبط المشهد
الشمي (Olfactory Landscape) ارتباطاً
عميقاً بثقافات الأفراد وهوياتهم في سياق مكاني، وذلك لأنه يمثل جانباً حسياً
مهماً من ذاكرتهم وتجاربهم المعاشة. الرائحة ليست مجرد إحساس، بل هي بوابة للذاكرة
والعاطفة، مما يجعلها عنصراً أساسياً في تكوين الهوية الثقافية.
1.
الذاكرة
والارتباط العاطفي
الروائح هي من
أقوى محفزات الذاكرة. عندما يشم شخص رائحة معينة (مثل رائحة الخبز الطازج، أو
المطر على الأرض الجافة، أو البخور في مكان مقدس)، فإن دماغه يربط هذه الرائحة
فوراً بذكريات وتجارب عاطفية معينة عاشها في مكان محدد. هذا الارتباط يخلق
"خريطة شمية" للمكان، حيث تصبح الرائحة جزءاً لا يتجزأ من هوية الفرد
وعلاقته به.
- مثال: قد تربط رائحة
التوابل في سوق قديم شخصاً بمسقط رأسه، مما يعزز شعوره بالانتماء إلى تلك
الثقافة.
2.
التعبير عن
الهوية الثقافية
تُستخدم
الروائح في العديد من الثقافات كشكل من أشكال التعبير عن الهوية والطقوس. الطقوس
الدينية، الاحتفالات، والأعراس غالباً ما تتضمن روائح معينة (مثل البخور، أو
الزيوت العطرية، أو الورود) التي تُشكل جزءاً من هوية تلك المناسبة وتاريخها.
- مثال: استخدام العود
والبخور في الثقافات العربية ليس مجرد عادة، بل هو جزء من التراث والضيافة
والهوية الثقافية. هذه الروائح تخلق بيئة شمية فريدة تميز هذه الثقافة.
3.
الحدود
المكانية والاجتماعية
يمكن أن
تُستخدم الروائح بشكل غير واعي لتحديد الحدود بين الأماكن والمجموعات الاجتماعية.
يمكن أن يكون لكل حي أو مدينة أو حتى منزل رائحته الخاصة التي تميزه عن غيره. هذه
الروائح تُساهم في تشكيل الإحساس بالانتماء أو الانفصال.
- مثال: رائحة المأكولات
التقليدية في منطقة معينة يمكن أن تخلق شعوراً بالانتماء لدى السكان، في حين
قد تكون غريبة على الزوار، مما يحدد حدود المجتمع.
4.
المشهد الشمي
كرمز ثقافي
تتحول بعض
الروائح إلى رموز ثقافية للمكان. رائحة البحر، أو رائحة القهوة في مقهى قديم، أو
رائحة التربة بعد المطر، كلها تصبح جزءاً من الذاكرة الجماعية للمكان وتُشكل هويته
الثقافية.
- مثال: رائحة القهوة
العربية في منطقة معينة تثير ذكريات جماعية عن الجلوس مع العائلة والأصدقاء،
مما يجعلها رمزاً للترابط الاجتماعي.
الختام:
المشهد الشمي ليس مجرد مجموعة من الروائح، بل هو نسيج معقد يربط الأفراد بالمكان،
ويُشكل هوياتهم الثقافية والشخصية، ويحفز ذكرياتهم العاطفية بشكل عميق.
المراجع
المواقع الإلكترونية :
(1) المعجم الوسيط . https://www.arabicacademy.gov.eg/ar/%D9%85%D8%AD%D8%B1%D9%83-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%AD%D8%AB/%D9%88%D9%8E%D8%AC%D9%8E%D8%AF%D9%8E?exact_search=true
(2) تفسير الطبري. https://quran.ksu.edu.sa/tafseer/tabary/sura12-aya94.html
المراجع الأجنبية
(3) Hay, R. (1998). Sense of place in
developmental context. Journal of environmental psychology, 18(1),
5-29.
(4) González, B. M. (2005). Topophilia and
topophobia: The home as an evocative place of contradictory emotions. Space
and culture, 8(2), 193-213.
(5) Árvay, A., & Foote, K. (2019). The
spatiality of memoryscapes, public memory, and commemoration. In The
Routledge handbook of memory and place (pp. 129-137). Routledge.
(6) Hubner, E., & Dirksmeier, P.
(2023). Geography of placemories: deciphering spatialised memories. cultural
geographies, 30(1), 103-121.
(7) Halbwachs, M. (2024). On
collective memory. University of Chicago press.
(8) Conley, V. A. (2012). Henri Lefebvre:
Lived Spaces. In Spatial Ecologies: Urban Sites, State and World-Space
in French Cultural Theory (pp. 11–28). chapter, Liverpool University
Press.
(9) Shipley, M. T., Ennis, M., & Puche,
A. C. (2008). The olfactory system. In Neuroscience in medicine (pp.
611-622). Totowa, NJ: Humana Press.
(10) Choi, R., & Goldstein, B. J.
(2018). Olfactory epithelium: Cells, clinical disorders, and insights from an
adult stem cell niche. Laryngoscope investigative otolaryngology, 3(1),
35-42.
(11) Endreß, S. (2023). A Novel Approach to
Visualizing Olfactory Landscapes. KN-Journal of Cartography and
Geographic Information, 73(3), 199-210.
(12) Finnerty, P. B., McArthur, C., Banks,
P., Price, C., & Shrader, A. M. (2022). The olfactory landscape concept: a
key source of past, present, and future information driving animal movement and
decision-making. BioScience, 72(8), 745-752.
(13) Liang, Q., Lin, S., Wang, L., &
Yang, F. (2024). Exploring the Role of Smellscape in Enhancing Landscape
Perception: A Case Study in the University History Museum. Buildings, 14(11),
3566.
(14) Fourie, W. J. (2023, August 5). Olfactory
landscapes. Vernacular. Retrieved from https://vernacular-online.nz/Olfactory-landscapes
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق